نسب النقاد الماديون كتابة التوراة لا لموسى النبي بل لكاتب عبقري ، كما زعموا ، متأخر ، وافترضوا أنه وجد في زمن الملك شاول (1053ق م) أو داود (1000ق م) أو سليمان (950ق م) ، أو في زمن الملك الصالح يوشيا (640ق م) ، أو في الفترة التي سبقت السبي إلى بابل (586ق م) ، أو في أثناء السبي البابلي (586-538ق م) ، أو في زمن عزرا الكاتب والكاهن في القرن الخامس ق م 00 الخ . كما زعموا أن هذا الكاتب ، المزعوم ، كان بين يديه سجلات قديمة جاءت من أزمنة بدائية ، يرجع بعضها إلى موسى النبي نفسه ، ألف منها التوراة الحالية . وكان لكل واحد أو مجموعة من هؤلاء النقاد نظرياتهم وافتراضاتهم التي بنيت على أساس نظري وعلى مجرد الاستنتاج ، والتي بينا بطلانها في الفصل التاسع .
وقد تصور هؤلاء النقاد أن بعض آيات ونصوص التوراة ، التفسيرية ، تؤيد وجهة نظرهم . وفيما يلي اعتراضاتهم وأهم النصوص والآيات التي اعتمدوا عليها وردنا العلمي عليها :
1 - الاعتراض الأول : افتراض مصادر متنوعة للتوراة :
زعموا أن التوراة كتبت من مصادر متنوعة على رأسها المصدر " الإلوهيمى " الذي يستخدم اسم الله " ايلوهيم " والمصدر " اليهودي " الذي يستخدم اسم الله " يهوه " ثم المصدر " الكهنوتي " والمصدر " التثنوي " إلى جانب مذكرات وجزئيات صغيرة كثيرة !! وزعموا أن التوراة تحتوى على روايات متعددة لنفس الحدث الواحد ، وروايات متناقضة إلى جانب وجود اختلاف في اللغة والأفكار , وهذا الزعم ، عمليا وأثريا وتاريخيا ودينيا وباطل من أساسه ، للأسباب التالية :
أثبتت الدراسات الأثرية والتاريخية الحديثة ، في الشرق الأدنى ، أن هذا الأسلوب ، المزعوم ، في كتابة التوراة لا مثيل له في أدب تلك العصور سواء الديني أو غير الديني . كما أثبت اكتشاف الألواح الطينية ، والتي ترجع إلى زمن إبراهيم ، أن قصص الخليقة والطوفان وبرج بابل التي وردت بها والتي تقترب مع ما جاء في التوراة بصورة إعجازية بطلان نظرية المصادر المتعددة .
كما أن افتراضات ونظريات المصادر هي مجرد افتراضات استنتاجيه بنيت على مجرد الافتراض والظن بدون سند أو دليل واقعي أو منطقي سواء من التاريخ أو التقليد أو الآثار أو الإيمان الذين اجمعوا على أن موسى النبي هو كاتب التوراة . وهذه الافتراضات والنظريات متعارضة ومتناقضة للدرجة التي تؤدى إلى رفضها جميعا . إذ لا يعقل أن نترك الحق الظاهر ونجرى وراء أوهام .
ويستحيل أن نتصور أنه كان لدى الكاتب مصادر عديدة وضعها في أعمدة متجاورة ثم خلطها أو دمجها معا بمساعدة زيادات أخرى اخترعها ذاتيا ليكون بذلك رواية واحدة !! فهذا لا يتصوره إلا خيال الناقد فقط ولم يحدث بل ويستحيل أن يحدث في الواقع . وعند النظر إلى ما حاول النقاد أن يصوروا أنها مصادر متعددة ، نجد أن كل ما تصوروا أنه مصدر يكون رواية مستقلة ، غير كامل وناقص وغير واضح المعاني وأن هناك حذفا في الأقسام الجوهرية وفجوات لا يمكن تفسيرها والحدث فاقد الاستمرارية وبه أحداث تظهر بلا تعليل أو منطق . والمثال التالي للمصدر الإلوهي الذي تصوره النقاد في خروج 20:13؛ 31:14 يوضح لنا ذلك :
" فلما أخبر ملك مصر أن الشعب قد هرب 000 وأخذ ست مائة مركبة ممتازة وجميع مراكب مصر وعلى كل منها ضابط 000 رفع بنى إسرائيل عيونهم فإذا المصريين ساعون وراءهم فخافوا جدا 000 وقالوا لموسى أمن عدم القبور في مصر أتيت بنا لنموت في البرية . ماذا صنعت بنا فأخرجتنا من مصر . أليس هذا ما كلمناك به في مصر قائلين دعنا نخدم المصريين فإنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية 000 ما بالك تصرخ إلى ؟ 000 فأنتقل ملاك الرب السائر أمام عسكر إسرائيل فسار وراءهم 000 فكان الغمام مظلما من هنا وكان من هناك ينير الليل 000 وعطل دواليب المراكب فساقوها بشدة 000 ورأي إسرائيل المصريين أمواتا على شاطئ البحر 000 " .
فالجزء الأخير ، على الأقل ، من هذه الرواية ناقص وأحداثه غير مفهومة ومبهمة فلا نعرف من هو قائل " ما بالك تصرخ إلى ؟! " ولا لمن قيلت ؟! ولا دواليب من التي عطلت؟! ولا كيف وجد المصريين أمواتا ولا كيف ولا أين ماتوا؟!
ومما يدل على استحالة وبطلان هذه الافتراضات والنظريات هو الرسومات الإيضاحية التي تشبه اللوغاريتمات التي يحاول النقاد استخدامها لتصوير كيفية تكون رواية واحدة من مصادر عديدة في عصور أتسم أسلوب كتابتها بالبساطة كما أجمع العديد من العلماء على أن بساطة أسلوب التوراة ينفي كل هذه الافتراضات والنظريات الوهمية .
أن استخدام أسمى الله " إيلوهيم " و " يهوه " لا يدلان على أنهما جاءا من مصدرين مختلفين ، بل يدلا على أن لله أسماء وألقاب متعددة تدل على صفاته المتعددة إذ أن " إيلوهيم " يعنى قدرته الكلية و" يهوه " يعنى وجوده المطلق كالواجب الوجود الدائم الوجود علة وسبب كل وجود ، كما يعنى لقبه " إيلون " الأعلى ، ولقبه " أيل شداي " ضابط الكل .
وقد تصور النقاد أن في قول الله لموسى " وأنا ظهرت لإبراهيم واسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شئ . وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم " (خر6 :2) ، ما يعنى أن اسم يهوه لم يكن معروف عند الأباء الأولين . وتصوروا أن هذا يؤيد وجهة نظرهم بأن المصدر اليهودي جاء متأخرا عن المصدر الإلوهيمي . ولكن هذا الزعم باطل ، أولاً : لأن كاتب التوراة ، موسى النبي ، كان يعرف الاسم يهوه جيدا ، واستخدامه له في التوراة لا يدل على مصدر متأخر لأنه هو نفسه الذي استخدم الاسمين معا في وقت واحد وعصر واحد وكتاب واحد ورواية واحدة . ثانياً : يظهر جليا من سفر التكوين أن الأباء الأولين استخدموا اسم يهوه كثيرا سواء قبل الطوفان (تك 1:4؛ 26:5؛ 26:9) أو بعده. ولا يعنى قول الله لموسى ، هذا ، سوى أن الآباء لم يعرفوا اسم يهوه بمعناه ومغزاه برغم استخدامهم له . فلم يكشف الله لهم عن مغزاه كما كشفه لموسى النبي (حز 2:3-15) . كان الاسم مستخدما منهم ولكن معناه لم يعرف في زمانهم .
2 - الاعتراض الثاني : الزعم بعدم تاريخية محتويات التوراة :
زعموا أن قصص الخليقة والطوفان والأعمال المعجزية لم تحدث تاريخيا وإنما هي مجرد نسخ عبرية مطابقة للأساطير البابلية والفارسية والهندية وغيرها من الأساطير القومية للشعوب .
ولكن البحث العلمي الصحيح يقول أن تشابه ما جاء بالتوراة مع أساطير الشعوب يدل على صحة ما جاء في التوراة وليس العكس ، للأسباب التالية :
(1) وردت قصص الخليقة والطوفان في معظم أساطير الشعوب قديما وحديثا وفي كل قارات الدنيا الست (آسيا وأفريقيا وأوربا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأستراليا) . وعلى سبيل المثال فقد وردت عند البابليين والمصريين والإغريق والهنود وقبائل أستراليا ونيوزلندة وتاهيتي وبورما وسيبيريا وجزر المحيط الهادي وقبائل الهند وسكان الفلبين وقبائل الباجوس والكوميكون والكوركوس بالهند وموندا في شتانجبور والشريميون في روسيا والشيلوك في إقليم النيل الأبيض والايوى بتنجو وقبائل الإسكيمو وسكان المكسيك وقبائل الاسكا وأبيما والديجونيو والهوبى والمتشواكان بالأمريكتين ، وغيرهم من القبائل. وذلك إلى جانب الديانات السماوية.
وهذا يدل على صحة وتاريخية مصدر هذه القصص ، فقد نشأت في الأصل وانتشرت عن مصدر واحد ، هذا المصدر هو نوح الذي سلم أولاده الثلاثة ، سام وحام ويافث ، الذين تناسل منهم جميع سكان الأرض (أنظر تك 10،11) ، التقليد الذي استلمه عن جده متوشالح عن أخنوخ عن شيث عن آدم . ولما انتشر أحفاد نوح في الأرض حملوا معهم هذا التقليد ، عن الخليقة والطوفان ، وبمرور الوقت تحولت قصص الخليقة والطوفان إلى أساطير وإن كانت قد احتفظت بسماتها الرئيسية وجوهر محتواها الأصلي وهو أن الإنسان خلق من طين وأنه كان هناك طوفان عم الأرض . وكان بين أحفاد نوح رجال أتقياء لم يتلوثوا بالعبادات الوثنية مثل إبراهيم ، خليل الله ، الذي خرج ، بدعوة من الله ، من أور الكلدانيين (تك 1:12-3) فيما بين النهرين (العراق القديم) ، حاملا معه التقليد الصحيح الذي تسلمه عن جده سام بن نوح وحافظ عليه وسلمه بدوره إلى ابنه اسحق وحفيده يعقوب وأبنائه الاثنى عشر. ثم وصل هذا التقليد إلى موسى النبي عن جده لاوي بن يعقوب ودونه في كتاب بوحي الروح القدس (2بط 21:1) وأمر الله المباشر له بالكتابة(8).
(2) وعلى الرغم من أن هناك تشابها كبيرا بين ما جاء في التوراة وبين هذه الأساطير ، وبصفة خاصة البابلية ، فهناك اختلافات واضحة وفروق جوهرية بينهما تدل على أن كاتب التوراة لم يستعن بأي من هذه الأساطير بالمرة . إذ تقول هذه الأساطير بتعدد الآلهة وتناحرها وتصارعها ، كما تقول أن الأرض والسماء قد ظهرتا في الوجود ولم يخلقا ولا تقول أن الله هو خالق الكون وعلته ومبدعه ، بينما تقول التوراة أن الله واحد ولا يوجد إله أو آلهة معه ، لا شريك له ، فهو السرمدي ، الأزلي الأبدي ، واجب الوجود الدائم علة وسبب وخالق كل وجود . كما تمتلئ الأساطير بالخرافات اللامعقولة وغير المنطقية وبصفة خاصة حيت تقول بوجود علاقات جنسية وتناسلية بين الآلهة ، فهناك الإله الذكر والإلهة الأنثى ، بل وتقول بوجود علاقات من هذا النوع بين الآلهة والبشر !! بينما تقدم لنا التوراة رواية منطقية بسيطة ، خالية من التعقيد والخرافة ، وقد اتفق معها معظم الفلاسفة والمفكرين إلى جانب الإنجيل والقرآن . ويؤيد ذلك مسز موندر عالمة الآثار البابلية الشهيرة والتي تقول : " أن من يقول بأن كاتب سفر التكوين قد تأثر بالأفكار البابلية يحكم على نفسه بالجهل بتلك الأفكار ".
(3) وقد أثبتت أدق النتائج المؤكدة للحفريات والبحث الجيولوجي ، حتى الآن ، اتفاق كبير مع قصة الخلق ونشأة الكون كما جاءت في التوراة ، كما أثبتت حقيقة وصحة ما جاء في التوراة عن الطوفان .
(4) وأثبتت الاكتشافات الأثرية الكلدانية ، والتي تتفق مع ما جاء في التوراة بصورة إعجازية ، أن قصص الخليقة والطوفان 00الخ ، قد وجدت في شكل مكتوب من قبل عصر إبراهيم الذي عاش حوالي 2000 سنة ق م أي قبل موسى النبي بأكثر من 500 سنة . وقد يرجع هذا الاتفاق الإعجازي بين ما جاء من الآثار الكلدانية والتوراة إلى أن المصدر الذي استلم منه إبراهيم هذا التقليد هو نفس المصدر الذي استلم منه قدماء الكلدانيين هذا التقليد أيضا. فقد خرج إبراهيم من أور الكلدانيين وكانت منطقة ما بين النهرين (العراق) ، والتي تضم أور الكلدانيين وبابل ، هي المستقر الأول للجنس البشرى بعد الطوفان (أنظر تك30:10) . وهذا يدل على أن موسى هو كاتب التوراة ، بل ويرى العلماء أن هناك احتمال أن يكون موسى قد اطلع على هذه الكتابات قبل إعداد عمله العظيم أو أنه كان بين يديه تقليد مكتوب جاءه من إبراهيم الذي تسلمه من أجداده ، وبصفة خاصة جده سام ، وكان معه عندما خرج من أور الكلدانيين .
3 - الاعتراض الثالث : الزعم بوجود معلومات خاطئة عن مصر :
زعم النقاد أن كاتب التوراة لم يرى مصر وأن معلوماته عنها عرفها بالسماع وإن كانت له معرفة بها ، ودليلهم على ذلك أنه ارتكب خطأ عندما قال أن المصريين كانوا ، في زمن موسى ، يبنون بالطوب الأحمر (خر 14:1) " اللبن brick" مثل البابليين بدلا من الأحجار وانهم كانوا يستخدمون " حمير وجمال " (تك16:12) أيام إبراهيم مثل العرب وانهم كانوا يزرعون الكروم أيام يوسف (تك9:40و10) بالرغم من أن الكروم لم تزرع في مصر إلا في حكم بسماتيك بعد موسى بحوالي 800 سنة وبعد يوسف بحوالي أكثر من 1000 سنة .
وقد بينا في الفصل السابق أن كاتب التوراة لا يمكن أن يكون غير موسى الذي ولد وتربى وعاش كل حياته في مصر وشبه جزيرة سيناء وأن معلوماته عن مصر هي معلومات مصري 100% لدرجة أن النقاد أنفسهم اعترفوا بأنه كان لكاتب التوراة معرفة بأحوال وعادات وقوانين وديانة ومناخ وجغرافية مصر حتى أن أحدهم ذكر خمسة وعشرين مثالا على الأقل على أن معلومات الكاتب كانت صحيحة . وقد أثبت البحث العلمي (الأثرى والتاريخي) ، حتى الآن ، صحة كل ما جاء في التوراة وخطأ النقاد وبعدهم عن الصواب ، فقد بينت المواد الأثرية التي جمعت ودرست بعد فك رموز اللغة الهيروغليفية أن كل ما جاء في التوراة عن مصر صحيح بنسبة 100%، فأثبتت أن الحمير كانت من الحيوانات التي استخدمت في مصر من قبل إبراهيم ، وأن الجمال كانت موجودة ومستخدمة في مصر قبل إبراهيم بحوالي 1000 سنة ، إذ وجد في رمال مصر سنة 1935 جمجمة جمل ترجع لسنة 2000ق م وحبل من شعر جمل يرجع لسنة 2500 ق م وقطعة فخار تحمل صورة راس جمل ترجع لسنة 3000 ق م كما أثبتت الآثار ، أيضا ، أن المصريين القدماء كانوا يستخدمون الأحجار في بناء المعابد والقصور الكبيرة بينما كانوا يستخدمون الطوب اللبن في بناء المقابر وبيوت السكن وحوائط المدن بل وقد وجدث أمثلة على استخدامه في أهرامات . كما أثبتت الدراسات الدقيقة شهادة المؤرخ الإغريقي هيردوتس (37:2) أن الخمر كان في أيام يوسف هو امتياز الطبقة الكهنوتية ، وتصور الآثار الكروم والعنب .
وهكذا كل يوم يثبت صحة كل ما جاء في التوراة وخطأ النقاد الماديين .
4 - الاعتراض الرابع : الكلام عن موسى بضمير الغائب :
زعم النقاد أن موسى النبي متكلم عنه دائما في التوراة بضمير الغائب وصيغة الغائب مما يدل على أنه ليس هو كاتب التوراة ويزعمون أنه لو كان هو الكاتب لتكلم بضمير المتكلم .
وقد فات هؤلاء النقاد ، أو تجاهلوا ، حقيقة أن موسى النبي تكلم واستخدم ضمير وصيغة المتكلم عشرات المرات في أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية . أما استخدام ضمير الغائب فلا يدل على أن الكاتب غير موسى ، فقد كانت عادة المؤرخين والكتاب العظماء الكلام عن أنفسهم بضمير وصيغة الغائب ، وهذه حقيقة أدبية مسلم بها ، وكان هذا الأسلوب شائعا في الكتابة المصرية في عصر موسى النبي فكان الملوك يحيون ذكرى انتصاراتهم بنقشها على حوائط المعابد وكانوا يستخدمون ضمير الغائب أحيانا وضمير المتكلم في أحيان أخرى . فقد كتبت لوحة الكرنك الإحصائية وحوليات تحتمس الثالث التي نشرت في كتاب "سجلات الماضي " جـ 19:2-18 وكذلك نقش بيانكى ميرامون في نفس الكتاب (ص 81-104) بضمير وصيغة الغائب . وفي نقش تحتمس الثالث الطويل في كتاب " سجلات الماضى " جـ 35:2-58 يتكلم بضمير الغائب والمتكلم وكذلك في حوليات رمسيس الثالث (23:6-70) يتغير الضمير في 34،50،52،59،69 . وكانت النقوش التي وضعها الأفراد في قبورهم تبدأ بضمير الغائب . وكتب زينوفون وقيصر تواريخهم التي كانوا هم أنفسهم أبطالها بضمير الغائب ، وتكلموا عن أنفسهم دائما بضمير الغائب . وكذلك نبوخذ نصر ملك بابل كان يخطب شعبه ويتكلم عن نفسه بضمير الغائب " نبوخذ نصر ملك بابل راعى الشعوب 000 " . لقد كان من غير الطبيعي أن يكتب أحد التاريخ بضمير المتكلم
5 - الاعتراض الخامس : لا يمكن أن يمدح موسى نفسه :
جاء في خر 3:11 " وأيضا الرجل موسى كان عظيما جدا في أرض مصر في عيون عبيد فرعون وفي عيون الشعب " ، وجاء في عدد 3:12 " أما الرجل موسى فكان {حليما جدا أكثر من جميع الناس على وجه الأرض " . وزعم النقاد أن موسى الذي اتصف بالوداعة والتواضع لا يمكن أن يمدح نفسه بهذه الصورة وأن استخدام ضمير الغائب في هذين النصين يدل على أن الكاتب غير موسى . وقد بينا في الرد على الاعتراض الرابع ، أن الكلام عن موسى بضمير الغائب لا يدل على أن الكاتب غير موسى بل على العكس ، فإن موسى قد تكلم عن نفسه في التوراة بضمير المتكلم وضمير الغائب على السواء . أما قوله عن نفسه أنه كان " عظيما جدا " و " حليما جدا " فهاتين العبارتين لا تدلان على أن الكاتب غير موسى أو أنهما تعنيان مجرد تمجيد موسى ، بل كانت الأولى تعنى " تأثير موسى " الذي أصبح له في مصر سواء عند فرعون والمصريين أو عند بنى إسرائيل وذلك بسبب الأعمال والمعجزات العظيمة التي صنعها الله بواسطته في مصر ، أنها تعنى تمجيد الله وعمله في شخص موسى . وتعنى الثانية وداعة موسى وحلمه بالمقارنة مع قساوة بنى إسرائيل وغلاظة قلوبهم وميلهم الدائم للابتعاد عن الله والارتداد عنه ، أنها تعنى حلم موسى وتحمله في قيادة هذا الشعب القاسي العنيد . ولا يوجد ما يمنع موسى أن يكتب مثل هذه العبارات التي تعبر عن أمر واقع لابد من التعبير عنه. ويجب أن لا ننسى أن موسى النبي كتب بوحي الروح القدس وإرشاده ، وأنه لم يكتب لجيله فقط بل كتب لفائدة كل الأجيال كقول الوحي " لأن كل ما سبق فكتب كتب لأجل تعليمنا " (رو5:4) . وقد فعل نفس الشيء بولس الرسول عندما قال عن نفسه " أهم خدام المسيح (الرسل) . أقول كمختل العقل . فأنا أفضل . في الأتعاب أكثر . في الضربات أوفر في السجون أكثر 000 الخ " (2كو 23:11) .
ولا ننسى أن موسى ذكر كل أخطائه دون أن يبررها مثل قتل المصري (خر 12:2) وهروبه من وجه فرعون عقب اكتشاف قتله للمصري (خر 14:2،15) ورفضه ، في البداية قبول المهمة التي أوكلها الله إليه (خر 1:4-3) وإهماله عهد الختان (خر 24:4-26) وكسره للوحي الشريعة المكتوبين بإصبع الله في لحظة غضبه (خر 19:32) واحتقاره لنفسه " من أنا حتى أذهب إلى فرعون ؟ " (خر 11:3) . أنه تكلم عن نفسه مادحا عمل الله بواسطته قليلا وذكر أخطاءه كثيرا وبرغم ذلك فقد مدحه يشوع تلميذه الذي أكمل سفر التثنية بصورة لا يمكن لموسى أن يتكلم بها عن نفسه بقوله "لم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرف الرب وجها لوجه. في جميع الآيات والعجائب التي أرسله الرب ليعملها في أرض مصر بفرعون وبجميع عبيده وكل أرضه وفي كل اليد الشديدة وكل المخاوف العظيمة التي وضعها موسى أمام أعين جميع إسرائيل " (10:34-12) .
6 - الاعتراض السادس : الزعم بوجود آثار من تاريخ متأخر عن موسى :
زعم النقاد أن هناك آيات ونصوص إيضاحية وتفسيرية تدل على أنها كتبت بعد موسى النبي . وفيما يلي نعرض هذه الآيات والنصوص والتفسير العلمي الصحيح لها :
(1) جاء في تك 6:12 " واجتاز ابرأم في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة . وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض " وفي تك 7:13 " فحدث مخاصمة بين رعاة مواشي ابرآم ورعاة مواشي لوط ، وكان الكنعانيون والفريزيون حينئذ ساكنين في الأرض " . وقد ظن النقاد أن في قوله " وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض " ما يدل على أن الكنعانيين لم يكونوا في الأرض وقت كتابة السفر ، وهذا لم يحدث إلا بعد موسى لا في أيامه . وقد فات النقاد أن الكنعانيين كانوا في أرضهم قبل إبراهيم (تك 19:10) ، وفي زمن إبراهيم (تك 6:12) ، وكانوا موجودين أيام موسى (تث 17:20) وأيام داود (2صم 7:24) وأيام سليمان (1مل 16:9) ، كما كانوا موجودين أيام السبي (عز 1:9) وأيضا أيام السيد المسيح (مت 22:15) .
وقد وضع موسى النبي هذه الجملة للتأكيد على أن هذه الأرض ، الأرض الموعودة ، أرض كنعان ، كانت أرضا مأهولة ولم تكن خالية أو معزولة ، بل كانت منطقة كثيفة بالسكان ، وهذا ما يعطى للوعد قوة عظيمة ، لأن احتلالها يتطلب طرد السكان منها . وتكرار العبارة في تك 7:3 " وكان الكنعانيون والفريزيون حينئذ في الأرض " قصد به موسى النبي أنه لم يكن هناك موضع كاف لمواشي إبراهيم ومواشي لوط وذلك بسبب وجود الكنعانيين والفريزيين بمواشيهم في الأرض .
(2) جاء في تك 31:36 " وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما ملك ملك لبنى إسرائيل " . وتصور النقاد أن الكاتب الذي كتب ذلك لابد أن يكون قد عاش تحت حكم الملكية التي تأسست بعد موسى بمئات السنين .
وقد فات هؤلاء النقاد أن الله سبق أن وعد إبراهيم بقوله " وملوك منك يخرجون " (تك6:17) ، وقال عن سارة " أباركها فتكون أمما وملوك وشعوب منها يكونون " (تك16:17) ، وقال الله ليعقوب أيضا " وملوك سيخرجون من صُلبك " (تك11:35) . وقد سجل موسى النبي هذه الوعود بنفسه في سفر التكوين وكان عارفا أن الله سيقيم ملوكا لبنى إسرائيل ، وهو الذي كتب بنفسه الوصية الخاصة باختيار ملوك بنى إسرائيل " ومتى أتيت إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك وامتلكتها وسكنت فيها . فإن قلت أجعل على ملكا كجميع الأمم الذين حوالي . فأنت تجعل عليك ملكا الذي يختاره الرب إلهك من وسط أخوتك تجعل عليك ملكا " (تث14:17،15) . لقد كان موسى يعرف ويثق أن الوعد سيتحقق ، فقد تحققت كل الوعود التي وعد بها الله ، وكان يعرف أنه سيكون هناك ملكا على شعبه يوما ما ، وعندما كتب الآية التي يحتج بها النقاد كان يقصد ، أن الوعد قد تحقق لجزء من أبناء إبراهيم وهم الآدوميون ، نسل عيسو بن إبراهيم ، وصار لهم ملكا قبل أن يتحقق الوعد ، أيضا ، لبنى يعقوب " قبلما ملك ملك لبنى إسرائيل ".
(3) جاء في تك 5:40 قول يوسف " لأني سرقت من أرض العبرانيين " . ويزعم النقاد أن تعبير " أرض العبرانيين " يستحيل استخدامه إلا بعد استيلاء بنى إسرائيل على أرض كنعان بالفعل ، وهذا لم يتم إلا بعد موسى لا في أيامه .
وهذه العبارة صحيحة تاريخيا ، برغم مزاعم النقاد . فقد دعي الجزء الجنوبي من فلسطين ، والمنحصر حول حبرون ، بالأرض التي يعيش فيها العبرانيين . وقد دعي إبراهيم بعد عبوره نهر الفرات وسكناه في أرض كنعان " العبراني " (تك13:14) ، ودعي يوسف عندما جاء إلى مصر " العبد العبراني " (تك17:39) ، كما سمى أخوة يوسف " العبرانيين " (تك32:43) ، ودعيت النساء الإسرائيليات في مصر " العبرانيات " (خر16:1) . إذا فقد كان إبراهيم واسحق ويعقوب وأحفادهم معروفين بالعبرانيين ، وقد عاش إبراهيم وعبيده وأحفاده من بعده إلى أن دخلوا مصر في عهد يوسف وكانوا معروفين جيدا خاصة من الملوك المجاورين لهم ، فقد كان لإبراهيم معهم معاهدات وحروب (تك1:14-24) ، وكان أبنه اسحق متحالفا مع ملك جرار (تك26:26-30) ، وكان يعقوب وأبناؤه وعبيدهم ذوى قوة ونفوذ وسلطان في المنطقة وقال الكتاب عنهم " وكان خوف الله على المدن التي حولهم " (تك5:35) . من هذا يتضح أن أسم " عبراني " و " عبرانيين " و " عبرانيات " كان شائعا منذ أيام إبراهيم في تلك المنطقة وكان الاسم مرافقا لهم سواء في استقرارهم أو ترحالهم .
(4) جاء في خر 35:16 " وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة حتى جاءوا إلى أرض عامرة . أكلوا المن حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان " . ويتصور النقاد أن هذه الفقرة كتبت بعد أن أنقطع المن والمن لم ينقطع بالفعل إلا في زمن يشوع (يش 10:5-33) وبعد موسى .
ولكن الكاتب هنا لا يتكلم عن توقف نزول المن أو انقطاعه بل يبين فقط أنهم أكلوا المن مدة أربعين سنة دون أن يذكر متى توقف . وقد عاش موسى بنفسه هذه المدة وكان يعرف أن مدة تيه بنى إسرائيل في البرية هي أربعين سنة (عدد 32:14-34) ، كما كان يعرف أن المن سيكون طعامهم طوال مدة التيه في البرية ، فقط ، وأنه سينقطع بعد ذلك كما جاء في خطابه الأخير : " وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر 000 فأذلك وأجاعك وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه " (تث2:8،3) وأمر هرون " خذ قسطا واحدا . وأجعل فيه ملء العمر منا " (حز33:16) وذلك للذكرى . كان موسى يعرف أن المن سينقطع بعد دخولهم الأرض الموعودة لذلك طلب من هرون أن يحتفظ بملء العمر " مكيال " للذكرى ، لذا فلا يوجد ما يمنع كتابته للفقرة المحتج بها .
(5) جاء في عدد 32:15-36 " ولما كان بنو إسرائيل في البرية 000 الخ ". ويفترض النقاد أن هذه الفقرة تدل أنها كتبت بعد أن صارت أيام البرية مجرد ذكرى وبعد أن كانوا مستقرين في أرض كنعان . وهذه غير صحيح لأن موسى كتب هذه الفقرة في نهاية حياته عندما كان الشعب معسكرا على أبواب موآب شرق البحر الميت .
(6) جاء في تث 12:2 " وفي سعير سكن قبلا الحوريون . فطردهم بنو عيسو وأبادوهم من قدامهم وسكنوا مكانهم كما فعل إسرائيل بأرض ميراثهم التي أعطاهم الرب " . ويزعم النقاد أن بنى إسرائيل ، بحسب هذا النص ، كانوا قد استقروا في الأرض قبل ذلك بزمن .
ولكن أرض ملكية إسرائيل المقصود هنا هي الأرض التي تقع شرق نهر الأردن والتي غزاها بنو إسرائيل بقيادة موسى النبي نفسه وقسمت بين سبطين ونصف " للرأوبينيين والجاديين 000 ونصف سبط منسى (تث12:3،13) .
7 - الاعتراض السابع : فقرات توحي بأن الكاتب يكتب من فلسطين لا من شرق الأردن :
(1) أفترض النقاد أن عبارة " عبر الأردن " التي تتكرر في عدد 19:32، تث 1:1،5، 8:3، 41-49 تعنى أن الكاتب كان يتكلم من الضفة الغربية التي لم يدخلها موسى النبي عن الضفة الشرقية التي أقام بها موسى . وهذا يعنى أن الكاتب لا يمكن أن يكون موسى بل واحد من الذين عاشوا في كنعان بالضفة الغربية !!
ولكن عبارة " عبر " الأردن يمكن أن يقولها من يعيش على كلا الجانبين من نهر الأردن ، فهي تعنى كلا الجانبين بحسب موقع المتكلم ، فيمكن لمن كان في شرق الأردن أو غربه على السواء أن يستخدمها. وبالنسبة لموسى الذي كانت يتكلم من شرق الأردن ، كانت تعنى ، الجانب الآخر ، غرب الأردن . وقد وردت عبارة " عبر الأردن " في عدد 19:32 لتعنى أن المتكلم يتكلم من سهول موآب شرق الأردن وهو بالتالي يتكلم عن غرب الأردن " أننا لا نملك معهم في عبر الأردن وما وراء لان نصيبنا قد حصل لنا في عبر الأردن إلى الشرق " (أنظر عدد 1:22) . كما يشير تك 8:3 إلى شرق الأردن الذي كان بالنسبة لموسى ، المتكلم ، " هذا الجانب " ، كما أنه لا يوجد ما يمنع موسى النبي الذي لم يكتب لجيله فقط بل لكل الأجيال أن يتكلم من موقع سيظهر لبنى إسرائيل بعد دخول كنعان وباسم سيكون معروف منهم ، كما لا يوجد ما يمنع أن يستخدم ، موسى ، التعبير الذي كان يستخدمه سكان الأرض الأصليون بصرف النظر عن الموقع الذي يتكلم منه هو .
(2) جاء في تك 8:12 وشواهد أخرى والتي يشير فيها الكاتب إلى " البحر " في الغرب و" النقب " في الجنوب . ويفترض النقاد أن هذين الاتجاهين لا يمكن أن يستخدمهما إلا شخص يقيم في فلسطين لا في سيناء .
وقد فات النقاد أن موسى النبي كان يكتب باللغة العبرية للعبرانيين ، وكان يكتب الأماكن بأسمائها العلم المعروفة بها لسكان فلسطين بصرف النظر عن موقعه هو منها . فقد كان يتكلم عن أسماء معروفة لسكانها ومواقع عرفها الآباء البطاركة من قبله بأسمائها التي ظلت كذلك بعد دخول كنعان وكان يتكلم عن الاتجاهات بالنسبة للآباء وكذلك بالنسبة لسكان مصر أيضا .
8 - الاعتراض الثامن : استخدام أسماء أماكن ومقاييس مع إيضاحات متأخرة :
زعم النقاد أن ذكر أسماء المدن القديمة مقترنة بأسمائها المتأخرة وكذلك المقاييس يدل على أن الكاتب متأخر عن موسى . وهذه أهم الأسماء التي استخدموها وبيان صحتها :
+ " بالع التي هي صوغر " (تك2:14و8) . وقد دعي أسم المدينة " صوغر " أيام لوط " فرفع لوط عينيه ورأى كل دائرة الأردن أن جميعها سقي قبلما اخرب الرب سدوم وعمورة كجنة الرب كأرض مصر . حينما تجيء إلى صوغر " (تك10:13) ، " لذلك دعي اسم المدينة صوغر " (تك22:19) ، أي قبل موسى . وكان الاسمان معروفين جيدا أيام موسى فاستخدمها كقولنا شارع 26 يوليو فؤاد سابقا .
+ " عين مشفاط التي هي قادش " (تك7:14) . كان الاسمان معروفين جيدا أيام موسى (عد1:20،16) . " عمق شوى الذي هو عمق الملك " (عد1:20،16) . كان الاسمان معروفين جيدا أيام إبراهيم ، ودعي " عمق شوى " بـ " عمق الملك " لأنه ، كما يقول العلماء ، كان مناسبا للرياضيات الملكية والتدريبات العسكرية ، ويرى بعض العلماء أن قصر أو معسكر ملكي صادق كانا به .
+ " قرية أربع التي هي حبرون " (تك2:23) . كان الاسمان معروفين أيام موسى ، فقد كان اسم المدينة قديما " قرية أربع " نسبة إلى رجل عظيم في العناقيين (يش 5:14) ، ثم دعيت بعد ذلك " حبرون " وهذا الاسم كانت معروفة به جيدا أيام موسى (تك8:13؛ 2:23،19) .
+ " افراتة التي هي بيت لحم " (تك19:35؛ 7:48) . " افراتة " هو الاسم القديم للمدينة و" بيت لحم " كان اسما معروفا أيام موسى والقضاة بعده.
+ يتكلم تكوين 14:14 وتثنية 1:34 عن مدينة اسمها " دان " ، ويقول النقاد أن أسم المدينة كان في زمن موسى " لايش "، ويقولون أن هذه المدينة لم تحمل اسم " دان " إلا بعد عصر موسى وبعد انتصار الدانيين الذين أسموها باسم أبيهم " دان " . يقول مورفي Murphy أن دان هو الاسم الأصلي للمدينة والذي تغير تحت حكم الصيدونيين إلى " لايش " واستعيدت بعد ذلك بالغزو . ويرى كثيرون من العلماء أنه من المحتمل ألا تكون هذه " دان " التي غزاها الدانيون بل هي " دان ين " المذكورة في 2صم 6:24 والتي أشار إليها يوسيفوس (عادات 10:1) وأنها كانت واحدة من منابع الأردن ، والتي هي بخلاف لايش . ويقول رافين Ravenأنه ليس من الضروري أن تكون " دان " المذكورة في تك 14:14 هي لايش بل يحتمل أن تكون مدينة أخرى تحمل نفس الاسم . أما " دان " المذكورة في تث 1:34 فيجب أن لا ننسى أن كاتب الفصل الأخير من سفر التثنية هو يشوع تلميذ موسى .
+ جاء في خر 36:16 "وأما العمر فهو عشر الايفة " وزعم النقاد أن " العمر" لم يعرف في زمن موسى .
ويقول العلماء يجب أن نميز بين " العمر " Omer و" الـ homer" الذي جاء في أزمنة متأخرة . فقد كان " العمر " مقياس مصري مثل " الايفة " ونظرا لأن " الايفة " كانت أكثر استخداما من " العمر " فقد فسر موسى النبي بالايفة . ويؤكد العلماء استحالة أن تكون عبارة " أما العمر فهو عشر الايفة " إضافة تفسيرية سواء من يشوع أو عزرا للفرق بين " العمر " المصري الذي كان يعرفه الذين عاشوا في مصر وخرجوا منها و الـ homer المتأخر .
+ جاء في خر 13:30، 24:38-26 " نصف الشاقل بشاقل القدس " ويتصور النقاد أن هذه العبارة تعنى أن الهيكل قد أقيم وأوزانه استخدمت لمدة .
ولكن القدس أو المقدس كان يعنى وقت موسى النبي ، خيمة الاجتماع أو القدس بخيمة الاجتماع . والشاقل استخدم في العصور القديمة ، قبل اختراع العملة ، كمقياس معياري للوزن . وشاقل القدس كان الوزن المعياري الذي في حوزة الكهنة . وكان استخدامه جديدا أيام موسى وقد أوضحته التوراة ثلاث مرات (خر 13:30؛ لا 25:27؛ عد 47:3) ولم يكن قد استخدم قبل موسى النبي .
9 - الاعتراض التاسع : جوانب تاريخية تعطى إيحاء بأن الكاتب غير موسى :
جاء في عدد 14:21،15 "كتاب حروب يهوه" الذي كان موجودا بين يدي كاتب التوراة والذي يوحي بأنه جاء من أزمنة أقدم مع أنه لم يتألف قبل العصر الأخير من رحلات بنى إسرائيل في البرية مما جعل النقاد يتصورون أن كاتب التوراة متأخر عن موسى .
يدل قدم اللغة العبرية المستخدمة في النص المقتبس من هذا الكتاب على أنه مكتوب في زمن موسى ويرى بعض النقاد أنه كتب قبل موسى بقرون عديدة ويرى بعضهم ، أيضا ، أنه كتب أيام موسى في السنة الأخيرة من التيه . وقد كان في إسرائيل شعراء لهم أناشيدهم التي تغنت بانتصاراتهم في الحروب ، وهذا كان شائعا بين قادة إسرائيل (عدد 26:11) . وسواء كتب ، هذا الكتاب ، قبل موسى أو أيامه فقد كان بين يديه واستشهد بهذه الفقرة منه . والكتاب ، كما هو واضح عبارة عن مجموعة من القصائد الشعرية . وهذه الفقرة لا يمكن أن تأخذ كدليل ضد كتابة موسى للتوراة بل على العكس تماما ، تؤكد أنه هو كاتب التوراة .
10 - الاعتراض العاشر : صيغة "حتى هذا اليوم " :
وردت هذه الصيغة " إلى هذا اليوم " ، بصفة رئيسية في (تك 33:26؛32:32؛ 26:47؛ 15:48؛ 37:19،8؛ تث22:2؛ 14:3؛ 8:10؛ 4:11؛ 4:29؛ 6:34). وقد تصور بعض النقاد أنها تدل على زمن متأخر عن موسى النبي .
ويرى العلماء، منهم دى ويت De Wette وكيلKeil وغيرهم ، أن هذه العبارة تشرح زمن متغير من سنين قليلة إلى قرون قليلة، وأنها لا يمكن أن تكون من آثار موسى فهي تستخدم في سفر التكوين دائما لتعبر عن أحداث حدثت قبل موسى النبي بعدة قرون. وقد حدث لبس في استخدام هذه العبارة في سفر التثنية 14:3 بسبب عبارة " باشان حؤوت يائير إلى هذا اليوم " وسبب اللبس أن مثل هذه العبارة قد وردت في سفر القضاة (3:10، 4) مما جعل بعض النقاد يتصورون أنها مكتوبة بعد موسى النبي . وبرغم التشابه بين العبارتين في سفري التثنية والقضاة إلا أن كل منهما غير ما تعنيه الأخرى. فـ " حؤوت يائير " أي قرى يائير، المذكورة في سفر التثنية ترجع إلى " يائير بن منسى " الذي كان في زمن موسى النبي (عد40:32و41) ، بينما " حؤوت يائير " المذكورة في سفر القضاة ترجع إلى يائير القاضي الجلعادى الذي كان له ثلاثون ولدا ولهم ثلاثين مدينة يدعونها " حؤوت يائير " مثل المذكورة في سفر التثنية .
11- الاعتراض الحادي عشر : الزعم بوجود تشابه بين سفر التثنية والأسفار المتأخرة :
يرى بعض النقاد أن هناك تشابه كبير بين سفر التثنية وسفر إرميا النبي في اللغة والأفكار وأسلوب الكتابة ، وأن هناك أيضا اختلافا بين سفر التثنية وبقية أسفار التوراة الأخرى ، أيضا ، في اللغة والأفكار وأسلوب الكتابة ، ويفترضون أن هذا يبرهن على أن السفر قد وجد في أيام إرميا أن لم يكن إرميا النبي هو كاتبه !!
وللرد على الاعتراض نقول لمثل هؤلاء النقاد ومن سار على دربهم لقد فاتكم الآتي :
أن هناك تشابها كبيرا وتماثلات كثيرة بين سفر التثنية وبقية أسفار التوراة الأخرى في اللغة والفكر وأسلوب الكتابة وفي الآيات والنصوص التي حوتها أسفار التوراة الخمسة . ويرجع تفرد سفر التثنية إلى أنه اختص بالأمور التشريعية ، القانونية ، الناموسية ، وقد كتبه موسى النبي في أيامه الأخيرة وهو على مشارف أرض كنعان وقد سجل فيه آخر خطاباته التي ألقاها على بنى إسرائيل وآخر وصاياه لهم .
كان في إمكان موسى الذي قضى أربعين سنة في قصر فرعون كأمير ، وتعلم حكمة المصريين وآدابهم وعلومهم ، وأربعين سنة في البرية كراعي غنم حميه يثرون ، وأربعين سنة كقائد للشعب في البرية يتلقى فيها الوصايا والنواميس من الله مباشرة ويتكلم معه " فما لفم " ويكتب مسوقا من الروح القدس ، أن يكتب كلمة الله ، بحسب إرادة الله وإرشاد روحه القدس ، بأكثر من أسلوب ، سواء تعليمي أو كهنوتي أو تشريعي . ومع ذلك فليس موسى النبي وحده هو الذي كتب بأكثر من أسلوب وفي أكثر من موضوع واحد ، فهناك العديد من الكتاب الذين كتبوا ، قديما وحديثا ، بأكثر من أسلوب وفي أكثر من موضوع واحد.
ويرجع وجود تشابه بين سفر التثنية وسفر إرميا إلى أن التوراة كلها أو سفر التثنية وحده قد اكتشف في الهيكل ، أيام حلقيا الكاهن ويوشيا الملك الصالح، وذلك قبل تكليف إرميا برسالته النبوية بقليل . فكان هذا السفر مع بقية أسفار التوراة الأخرى بين يدي إرميا النبي فتأثر به واستشهد بما جاء فيه كما تأثر أيضا ببقية أسفار التوراة الأربعة الأخرى والتي كان لها تأثير واضح على سفره.
ومما يدل على أن سفر التثنية كتب قبل زمن إرميا بمئات السنين وأن كاتبه هو موسى النبي هو وجود السفر بين يدي جميع الأنبياء الذين عاشوا في الفترة بين إرميا وموسى النبي ، فقد تأثروا به واستشهدوا بآياته ونصوص واقتبسوا منه.
وما يدل أيضا على قدم سفر التثنية وأن كاتبه موسى النبي استخدام الكلمات والألفاظ القديمة التي لا مثيل لها إلا في بقية أسفار موسى الخمسة فقط مثل الضمير " هو " الذي استخدم لكلا الجنسين ، المذكر والمؤنث ، وتكرر 36 من 195 مرة تكررت في الأسفار الخمسة ، وكذلك كلمة " نعر " التي استخدمت للفتاة كما للفتى ولم تستخدم كلمة " نعرة " المؤنث إلا في فقرة واحدة فقط (19:22) .
ويتكلم السفر في أغلب الأحيان بأسلوب الحاضر (المضارع) عن أحداث كانت مستمرة في أيام الكاتب، ويعطى المتكلم البركة واللعنة من على جبل جرزيم (تث14:17-20) مما يدل على أن الكابت هو موسى ، ويتكلم عن أحداث سوف تحدث في المستقبل ، أي بعد أيام الكاتب ، مثل اختيار ملك (تث11:27-26) ، ويحدث الرب الشعب في ص 19 عما يجب أن يفعلوه عند الدخول في أرض كنعان ، وفي معظم أجزاء السفر يتكلم عن نفسه وعن الشعب باعتبارهم موجودين بالفعل في البرية بخبرات أهل البرية.
كما يدل أسلوب السفر على أن الكاتب كان بين الواقفين على حدود الأرض الموعودة ولم يدخلها وان دخول كنعان واحتلال الأرض كان على وشك الوقوع ، وكان أعداءه الرئيسيين الكنعانيون الذين لم يعودوا كذلك في أيام القضاة ، كما يدل أسلوب السفر على أن الكاتب كان من الخارجين من أرض مصر وانه هو موسى النبي وكذلك تأثره الشديد بمصر وعطفه على الخدم المأخوذين منها وإشارته إلى أمراض خاصة بمصر عند التهديد بالعقوبات (تث15:5؛ 15:15؛ 12:16؛ 18:24) ، والإشارة إلى الخلاص من مصر عند الوعود (تث27:28،35) وكذلك رفعة مكانتهم التي ستكون في كنعان بالمقارنة بمصر (تث15:8؛ 60:28) ، وكذلك استخدامه أسلوب مصر في الكتابة على قوائم المنازل (تث10:11) أو على الحجارة (تث20:11) ، وأيضا العقاب بالعصي (الفلقة) (تث17:28) ، وطريقة الري (تث2:25،3) ، ووظيفة الكاتب في الترتيب العسكري المصري (تث10:11) .
ونختم هذا الفصل بالفقرتين التالتين لنوضح أن الكاتب هو موسى النبي الذي كان يكلم أناسا على مشارف كنعان وهم أنفسهم الذين خرجوا من مصر وعاشوا مدة التيه في البرية : " فالآن يا إسرائيل اسمع الفرائض والأحكام التي أنا علمتكم لتعملوها لكي تحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض 000 أعينكم قد أبصرت ما فعله الرب ببعل فغور (تث 5:20) . أن كل من ذهب وراء بعل فغور أباده الرب إلهكم وأما أنتم الملتصقون بالرب إلهكم فجميعكم أحياء اليوم" (تث1:4-4) ، " ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي حلف لآبائك إبراهيم واسحق ويعقوب أن يعطيك 00 فاحترز لئلا تنسى الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية 000 إذا سألك أبنك " (عد 4:25 ... الخ)