أين مخطوطات اسفار العهد الجديد ؟
ما هي الأسباب التي أدت لاختفاء أصول الأسفار المقدَّسة للعهد الجديد؟ وهل اختفاء الأصول يدعو للشك فيما بين أيدينا من أسفار قانونية؟ ندخل إلى الاعتراض والرد:
جاء في مقدمة "الطبعة اليسوعية للعهد الجديد": "بلغنا نص الأسفار السبعة والعشرين في عدد كبير من المخطوطات التي أُنشئت في كثير من مختلف اللغات، وهيَ محفوظة الآن في المكتبات في طول العالم وعرضه. وليس في هذه المخطوطات كتاب واحد بخط المؤلف نفسه، بل هيَ كلها نسخ أو نسخ النسخ للكتب التي خطّتها يد المؤلف نفسه أو أملاها إملاءً.
الرد
1ــ بداية دعنا يا صديقي نتساءل:
لماذا سمح اللَّه باختفاء الأصول المقدَّسة؟ ألم يكن قادرًا على حفظها؟
أ - بلا أدنى شك أن الله القادر على كل شيء كان قادرًا على الحفاظ على أصول الأسفار المقدَّسة، ولكنه سمح باختفائها ربما ليعلمنا أن الأهمية الحقيقية في كلمات الله المدوَّنة على هذه المخطوطات، وهذه الكلمات حافظ الله عليها فنُسخت وانتشرت في أرجاء الأرض كلها مما أدى إلى استحالة تحريفها، وليست القيمة الحقيقية في أوراق البردي أو رقوق الجلد التي كُتبت عليها كلمات الله، فلا فرق بين هذه الكلمات لو كُتبت على رقوق غالية للغاية أو كُتبت على أوراق عادية، ولا فرق لو كُتبت بماء الذهب أو كُتبت بحبر بسيط.
ب - لو ظلت هذه الأصول، ربما بالغ البعض في تقديسها وقدّم العبادة لها، وهذا ليس أمر مستبعد، فالشعب اليهودي عَبَدَ الحيَّة النحاسية التي صنعها موسى، إذ أقاموها كصنم وتعبَّدوا لها، فماذا فعل حزقيا الملك؟.. كما أزال حزقيا المرتفعات وحطّم الأصنام والتماثيل وقطَّع السواري، هكذا سحق حيَّة النحاس: "هُوَ أَزَالَ الْمُرْتَفَعَاتِ وَكَسَّرَ التَّمَاثِيلَ وَقَطَّعَ السَّوَارِيَ وَسَحَقَ حَيَّةَ النُّحَاسِ الَّتِي عَمِلَهَا مُوسَى لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِلَى تِلْكَ الأَيَّامِ يُوقِدُونَ لَهَا وَدَعَوْهَا نَحُشْتَانَ" (2مل 18 : 4)، ولم يعاقبه الله على هذا، ولا عاتبه على ما فعل.
جـ - حتى لا يعطي الفرصة لأحد لتغيير كلمة أو حرفًا في هذه الأصول فيغير معنى من المعاني، ويُتخذ هذا حجة، أما الآن فمن رابع المستحيلات أن يتلاعب أحد في آلاف المخطوطات المنتشرة في العالم كله بعدّة لغات، وهيَ محفوظة في أيدي أمينة للغاية.
2ـــ الأسباب التي أدت إلى اختفاء أصول الأسفار المقدَّسة للعهد الجديد:
احتفظت بعض الكراسي الرسولية في المدن الكبيرة، مثل أورشليم وإسكندرية وروما وأنطاكية، وبعض المدن مثل: كورنثوس وتسالونيكي وأفسس وفيلبي بهذه الأصول، حتى أن العلّامة ترتليان (145 - 220م) شهد نحو سنة 180م بأن هذه الأصول ما زالت محفوظة في أيامه، ودعيَ المؤمنين لزيارة تلك الأماكن التي توجد بها هذه الأصول للاطلاع على هذه الكتابات الأصلية authentic writings، فقال: "أذهب إلى الكنائس الرسولية التي فيها نفس الكراسي الرسولية التي لا تزال عظيمة في أماكنها حيث يُقرأ فيهــا كتاباتهم (كتابات الرسل) الأصلية (أو الموثوق بها authentic) بإطلاق الصوت ممثلة لوجه كل منهم بشدة"وأشار "البابا بطرس خاتم الشهداء" الذي استشهد سنة 311م بأن النص الأصلي لإنجيل يوحنا كان موجودًا في أيامه في أفسس، فقال: "النسخة نفسها تم كتابتها بيد الإنجيلي، والتي تم الحفاظ عليها من قِبل النعمة الإلهيَّة فــي الكنيســة المقدَّسة بأفسس" (Daniel B. Wallace Did the Original New Testament Manuscripts exist in the Second Century).
ومع مرور الزمن وشراسة الاضطهادات التي واجهت المسيحية، اختفت تلك الأصول، ولم يعد أحد يعرف مكانها، وهناك عدة احتمالات للأسباب التي أدت لاختفاء الأصول:
أ - أن يكون المُضطهِدين قد نالوا منها، من خلال منشور دقلديانوس الذي أصدره في 23 فبراير 303م حيث أمر بهدم الكنائس وحرق الكتب المقدَّسة، وقال "يوسابيوس القيصري": "كل هذا تم فينا عندما رأينا بيوت الصلاة تُهدم إلى الأساس، والأسفار المقدَّسة تُلقى في النار وسط الأسواق (يوسابيوس 8 : 2 : 1)" ويقول "ويستكوت": "لقد صُودرت الكتب المقدَّسة ودُمِرت على مدى واسع" ولا يُفهم من هذا أن الاضطهاد الروماني قضى على جميع مخطوطات الكتاب المقدَّس، لأن المؤمنين تفنَّنوا في إخفاء هذه الكنوز، وضحوا بحياتهم فداءً لهذه الكتب، وقصة الشماس العريس "تيموثاوس" وعروسه "مورا"، اللذان صُلبا لرفضهما تسليم الأسفار المقدَّسة لأريانوس الوالي، خير شاهد على هذا.
ب - أن تكون هذه الأصول قد تعرَّضت للتلف والتهرؤ بسبب تداولها بين الكنائس، وتهافت الكثيرين عليها، ولا سيما أنها غالبًا كُتِبت على أوراق البردي، وجرت العادة على أن النسخ التي تُبلى تُحرق أو توضع في جرار فخارية وتُدفن في باطن الأرض، حفاظًا على قدسيتها، ويقول "ف. ف. بروس" F. F. Bruce : "كل المخطوطات الأصلية فُقدت منذ زمن بعيد، ولم يكن بد من ذلك، إذ أنها كُتبت على ورق البردي، ولأن ورق البردي لا يمكن أن يبقى لفترات طويلة إلاَّ في ظروف معينة" (Bruce, B p. 176)
جـ- أن يكون المسيحيون قد أخفوها خشية عليها من أن تنالها أيدي الأعداء، وقد نُسيت الأماكن التي أُخفيت فيها، وربما الأيام القادمة تُظهر بعض منها.
3ــ اختفاء الأصول لا يدعونا للشك فيما بين أيدينا من أسفار العهد الجديد:
أ - يتصوَّر بعض النُقَّاد أنه يتعيَّن علينا أن نرفض الأسفار المقدَّسة بحجة ضياع النُسخ الأصلية، فهل يمكن أن نتعامل مع التراث الحضاري بهـذه السذاجـة وهذا المنطق المريض؟! ولو فعلنا هذا، ألا نصبح شعبًا بلا تاريخ ولا تراث ولا قيم؟! ولو سرنا بهذا النهج فإننا سنشك في كل المورث الحضاري، فكتاب الموتى الفرعوني الذي يعلّم الإنسان كيف يعيش حياة فاضلة يصبح بلا قيمة لأن أصله قد فُقد، ومثله الإنتاج الأدبي لهوميروس مثل الإلياذة والأوديسة، وتاريخ هيروديت، ويوسيفوس المؤرخ اليهودي، وكرنيليوس كاسيتوس المؤرخ الروماني، وكتابات شكسبير، بل وكتابات العظماء الذين عاصرناهم مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم.. بل أن جميع السور القرآنية قد فُقدت أصولها من الرقاع واللحاف وصدور الرجال فماذا يقولون عنها..؟! هل سيشك علاء أبو بكر ولواء أحمد عبد الوهاب فيما يؤمنون به؟! أم أنهم سيظلون يكيلون بمكيالين..؟! ألم نقل كثيرًا أن الناقد كثيرًا ما يكون أحادي النظرة فيهاجـــم ما يؤمن هو به دون أن يدري؟!
ب - فقدان الأصول لا يُبطل قيمة النص قط، فمثلًا "وثيقة تحرير العبيد" التي وقَّعها "إبراهام لينكولن" في يناير 1863م، وهيَ مكوَّنة من أربعة أوراق فلوسكاب، وبناء عليها تم تحرير أربعة ملايين عبدًا في أمريكا, ولم تمر ثمان سنوات إلاَّ وشب حريق في شيكاغو سنة 1871م واحترقت هذه الوثيقة، ومع ذلك لم نسمع قط أن إنسان عاقل أو غير عاقل سعى لاسترجاع عبيده، لأن أصل الوثيقة قد احترق وضاع.
جـ - لو كانت النسخ الأصلية بين أيدينا الآن، فما أدراك أن النُقَّاد لا يثيرون الشكوك حولها قائلين من يدرينا أن هذه النسخ هيَ النسخ الأصلية؟! وحتى لو كان صاحب السفر قد مهره بخط يده موقعًا عليه، فسيقولون من يدرينا أن هذا توقيع مرقس أو بطرس أو بولس..؟! ثق يا صديقي أن التشكيك لن يتوقف ما دام المُشكّك (الشيطان) له وجود على هذه الأرض.
4ــ سلامة الفروع يؤكد سلامة الأصول:
بلغت مخطوطات العهد الجديد من الانتشار والشهرة ما لم تبلغه مخطوطات أي كتاب أو مؤلَّف آخَر،فمنذ القرن الثاني الميلادي عمّت هذه المخطوطات أرجاء المسكونة شرقًا وغربًا، فلو افترضنا أن المخطوطة الأصلية (الأم) نسخ منها سبع نسخ فهذه النسخ تمثل الجيل الثاني، فإذا اتفقت النسخ السبعة معًا فهذا دليل على صحة مطابقتها للمخطوطة الأم، فنحن نرى المخطوطة الأم في كل نسخة من هذه النسخ السبعة المتفقة تمامًا بالرغم من تسليمنا بحدوث تغيرات طفيفة في بعضها مثل السهو عن حرف أو كلمة، وعندما ينسخ من هذه النسخ السبعة مائة نسخة فإنها تمثل الجيل الثالث، وهكذا تتوالى الأجيال من المخطوطات وتتسع القاعدة حتى أننا نقف أما هرم شامخ رأسه المخطوطة الأم، وقاعدته تتسع بتقدم الزمن وزيادة عدد المخطوطات خلال نحو ألف وأربعمائة عام قبل الوصول إلى عصر الطباعة. واتفاق هذه المخطوطات يؤكد لنا صحة مطابقة هذه المخطوطات للمخطوطة الأم، فصحة الفروع وسلامتها يؤكد لنا صحة وسلامة الأصل، وهو المخطوطة الأم، وأنها وصلت إلينا كما أرادها الله أن تصل إلينا. أما الذين يدعوننا أن نطرح هذه الأسفار المقدَّسة لأن أصولها قد فقدت، فهم يشبهون أناسًا مزمعين أن يبدأوا رحلة شاقة وخطيرة، إذ يعبرون خلالها في الصحاري وفي الأدغال حتى تختفي معالم الطريق، وهم يرفضون بشدة أن يحملوا معهم خرائط توضح معالم الطريق وخط السير.. لماذا؟.. لأنهم يريدون الخريطة الأصلية التي وضعها رجل الجغرافيا، أما هذه الخرائط التي هيَ صورة طبق الأصل من الخريطة الأصلية فلا يعترفون بها، وبهذا يفضلون الموت عن الحياة ويكتبون شهادة موتهم بأنفسهم. ويقول "أيريل كيرنز": "قد ساهم النقد الأدنى Lower Criticism في تأكيد درجة الدقة العالية للنص الكتابي الذي بين أيدينا، حتى أننا نستطيع أن نجزم بأننا نملك الكتابات الأصلية لأسفار الكتاب، وتصبح بذلك تعاليم الكتاب وعقائده أقنع من أن تتعرّض للشك ولو من أكثر النُقَّاد تطرفًا".
وبهذا نصل إلى نتيجة هامة جدًا وهيَ أن الكتاب المقدَّس يمثل أدق وثيقة في التاريخ البشري تناولته الأيدي العديدة بنساخة آلاف المخطوطات منه حتى وصـل إلى عصر الطباعة، ويقول "دكتور جورج فرج": "ويمكننا التأكيد بكل ثقة على أصالة نص الكتاب المقدَّس وعدم تعرضه لأي تحريف أو عبث متعمّد، إذ توجد آلاف المخطوطات القديمة التي تحفظ لنا نص الكتاب المقدَّس وبالأخص نص العهد الجديد محل دراستنا، ونجد أن حفظ نص الكتاب لا يقتصر فقط على المخطوطات الأصلية بل قد حُفِظ في الترجمات القديمة التي وصلت إلينا، وكذلك في كتابات الآباء الأولين، إننا نستطيع أن نؤكد بكل ثقة بأن نص كتاب العهد الجديد يمثل أدق وثيقة لكتاب كبير وصل لنا من عصور ما قبل الطباعة في العالم أجمع.
ومع ذلك فيجب التأكيد على حقيقة مهمة وهيَ أنه لا يوجد في الدنيا كتاب تناقل بالنسخ اليدوي تتطابق فيه كل مخطوطاته بدون اختلافات طالما أن الكتاب له عدة نسخ يدوية تم نسخها بشكل بشري قبل ظهور ماكينات الطباعة.
مقتبس من كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد) أ. حلمي القمص يعقوب