المثلية الجنسية .. الدكتور أوسم وصفي
المثلية والطب النفسي ـ علاقة ملتبسة
في البداية تجدر الإشارة إلى أن المؤسسين الأوائل للطب النفسي مثل فرويد ويونج وأدلر اعتبروا الجنسية المثلية نوعاً من التوقف في التطور الجنسي للإنسان. كان فرويد يؤمن أن الطبيعة الجنسية للإنسان هي في الأساس ثنائية الميل bisexual، أما الأفراد فيصبحون غيريين أو مثليين من خلال خبراتهم في العلاقة مع الوالدين والآخرين (فرويد 1905).
في هذا الصدد يجب التأكيد على أن هناك فرقاً بين مفهوم المرض الذي يفترض أن الإنسان يكون سليماً ثم يصاب بالمرض ومفهوم الاضطراب التطوريDevelopmental Disorder والذي هو توقف وفشل في الوصول إلى التطور الجنسي الذي كان من المفترض أن يتم الوصول إليه. يعتبر فرويد أن الجنسية المثلية هي مرحلة من مراحل التطور الجنسي للإنسان، يعبرها البعض إلى الجنسية الغيرية بينما يتوقف البعض الآخر عندها ويصبحون مثليين. لكن فرويد لم يكن يعتبر الجنسية المثلية مشكلة كبيرة أو مرضاً ينبغي علاجه. وفي خطاب وجهه فرويد سنة 1935 لأم أمريكية لشاب مثلي، كتب فرويد التالي:
"بالطبع المثلية ليست ميزة، ولكنها أمر لا ينبغي الخجل منه، ولا هو رذيلة أو أمر يقلل من شأن الإنسان. لا يمكن أن نعتبر الجنسية المثلية مرضاً، ولكننا نعتبرها شكلاً من أشكال النشاط الجنسي يحدث بسبب توقف في النمو الجنسي. الكثير من الأشخاص المحترمين في العالم القديم والحديث على حد سواء كانوا من المثليين مثل أفلاطون ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم. إنه من الظلم الكبير أن نضطهد المثلية فاضطهاد المثليين جريمة وقساوة شديدة أيضاً. "
أما التحليليون الذين تبعوا فرويد فكانت لهم آراء متباينة حول سبب المثلية. فعلى سبيل المثال رفض ساندور رادو (1940، 1949) فكرة فرويد أن الإنسان يولد ذو طبيعة مزدوجة وقال أن الجنسية الغيرية طبيعية، أما المثلية فهي محاولة للحصول على اللذة الجنسية عندما تكون العلاقة الغيرية الطبيعية صعبة ومهددة للمراهق. غيره من التحليليين رأوا أن الجنسية المثلية تنتج من علاقات مرضية داخل الأسرة خلال المرحلة الأوديبية من النمو الجنسي (4-5 سنوات).
السؤال هنا هو: هل تغير المشهد العلمي كثيراً منذ ذلك الوقت؟ هل ظهرت أبحاث قاطعة تثبت أن الجنسية المثلية مرض، أو توقف في النمو الجنسي؟ وهل خرجت أبحاث قاطعة تؤكد أن المثلية هي مجرد اختلاف وراثي؟ الحقيقة هي أن العلم لم يقل كلمته بعد ولم يثبت أياً من هذه الأشياء بالدليل القاطع لأن المشكلة هي أن السياسة قطعت الطريق على الحوار العلمي حيث أصبح يتهم بالكراهية و يوصف بالرجعية والتخلف ومعاداة المثليين ، كل من يقوم بأي بحث في هذا المجال، اللهم إلا الأبحاث الوراثية التي تحاول أن تثبت أن الإنسان يولد مثلياً تماماً وأن المثلية ليست سوى اختلاف وراثي مثل لون العينين أو الشعر أو الميل لاستخدام اليد اليسرى بدلاً من اليمنى. أما عن كيف وصل الحال إلى ما هو عليه، وماذا كان دور السياسة في التشخيص والبحث العلمي في هذا المجال، فهذا ما سوف نجيب عليه في السطور التالية من خلال تتبعنا لتاريخ هذا التشخيص.
تاريخ التشخيص الطبنفسي
في سنة 1952 قامت الجمعية الأمريكية للطب النفسي American Psychiatric Association (APA) بإدراج الجنسية المثلية في الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية Diagnostic and Statistical Manual (DSM) تحت فئة اضطرابات الشخصية المضادة للمجتمع Sociopathic personality disturbances
ثم في سنة 1968 في النسخة الثانية من الدليل(DSM II) تم تغيير مكان الجنسية المثلية من فئة الاضطرابات السيكوباتية إلى فئة الانحرافات الجنسيةsexual deviations ثم في النسخة المُرَاجَعة للتصنيف، إعتُبِرَت المثلية مشكلة عندما كانت تتعارض مع شعور الشخص بنفسه، أي عندما تكون مرفوضة داخلياً منه، أما إذا لم تكن مرفوضة من الشخص فلم تعتبر عندئذ مَرَضية.
نلاحظ التطور التدريجي للاعتراف بالمثلية كخيار طبيعي والسؤال دائماً كما أشرت سابقاً، هل هذا نتيجة لمزيد من الأبحاث المؤكدة، أم نتيجة للضغوط السياسية في ذلك الوقت؟ هذا ما سوف نتعرض له في السطور التالية.
في تحليله العلمي الرصين، الذي حاول فيه الابتعاد عن التأثيرات السياسية لتشخيص المثلية، يقول بايـر (1981) "لم تكـن هذه التغييرات نابعة من استيعاب الحقائق العلمية التي يمليها المنطق، وإنما على العكس كان هذا العمل مدفوعاً بما كان يمليه المزاج الأيدولوجي العام في تلك الحقبة من التاريخ". كان باير بهذا الكلام يعلق على قرار الجمعية الأمريكية للطب النفسي برفع المثلية من الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية الذي بدوره أحبط البحث العلمي في الأسباب النفسية للمثلية وجعل البحث العلمي في الجنسية المثلية قاصراً، كما قلنا، على الأبحاث الوراثية التي تحاول التأكيد على أن المثلية مجرد صفة وراثية.
وفي كتاب الجنسية المثلية وتسييس الحقيقة يتتبع الطبيب النفسي الأمريكي جيفري ساتينوفر التغييرات المتلاحقة السريعة تحت تأثير الضغوط السياسية التي كانت تجري وراء الكواليس في الجمعية الأمريكية للطب النفسي لاستصدار ذلك القرار "السياسي".
• سنة 1963
مدفوعة بالقلق بشأن السلوك الجنسي المثلي الذي كان يبدو متزايداً في ذلك الوقت، كلفت أكاديمية نيويورك الطبية لجنتها للصحة العامة بتقديم تقرير عن الجنسية المثلية. وجاء في تقرير اللجنة ما يلي: "الجنسية المثلية هي بالفعل مرض. المثلي إنسان مضطرب وجدانياً بحيث لم تتطور لديه القدرة الطبيعية لتكوين علاقات مشبعة مع الجنس الآخر". كما أضافت اللجنة: "بعض من المثليين قد ذهبوا إلى ما هو أبعد من مجرد الدفاع عن المثلية، وهم الآن يحتجون قائلين أن المثلية هي أسلوب محبب ونبيل ومفضل للحياة".
• سنة 1970
خططت قيادة اللوبي المثلي في الجمعية الأمريكية للطب النفسي لمجهود منظم للتأثير على الاجتماع السنوي للجمعية ودافعوا عن نشاطهم هذا من منطلق أن الجمعية ليست مجرد جمعية علمية، بل هي مؤسسة اجتماعية أيضاً . في هذا الاجتماع، قدم إيرفينج بايبر Irving Bieber وهو طبيب نفسي تحليلي مشهور دراسة عن المثلية وأثناء إلقائه هذه الدراسة هاجمه الأعضاء المثليون وسخروا منه حتى أن أحدهم قال له: "لقد قرأت كتابك
يا دكتور بايبر، لو كنت في كتابك هذا قد تكلمت عن السود مثلما تكلمت عن المثليين، لكنت قد تعرضت للمحاكمة وأنت بالفعل تستحق ذلك".
• سنة 1971
نجحت خطة اللوبي المثلي في الجمعية ووافق المنظمون في الاجتماع السنوي التالي سنة 1971 على تنظيم ندوة خاصة ليست عن "المثلية" ولكن عن "المثليين" (هنا نلاحظ الانتقال من الجهود العلمية المتجردة من الأشخاص، إلى المجهود الاجتماعي/السياسي الذي يهدف إلى الخلط بين المثلية والمثليين) وتم تهديد بعض الأعضاء المثليين للرئيس أنه إن لم يوافق على هذه الندوة سوف يحدث في هذا الاجتماع أكثر بكثير مما حدث في اجتماع السنة الماضية. ويقتبس ساتينوفر من باير التالي:
بالرغم من الموافقة على السماح للمثليين بإجراء ندوتهم في الاجتماع السنوي سنة 1971، شعر النشطاء المثليون في واشنطون أنهم بحاجة إلي دفعة أخرى للتأثير على مجتمع الطب النفسي فاتصلوا بإحدى الجبهات السياسية لتحرير المثليين لتنظيم المظاهرات المعروفة بمظاهرات مايو 1971
وفي الثالث من مايو 1971 وأثناء ندوتهم "العلمية" مع زملائهم الأطباء، خطف الأعضاء المثليون الميكروفون وأعطوه لأحد النشطاء المثليين المتجمهرين في الشارع حول مقر اجتماع الجمعية والذي صاح في الميكروفون قائلاً:
الطب النفسي هو العدو المتربص بنا. لقد شن الطب النفسي حرب إبادة ضدنا. أيها الأطباء النفسيون، يمكنكم أن تعتبروا هذا بمثابة إعلان حرب ضدكم.
لم يُقدم بحث علمي واحد. وإنما قام النشطاء المثليون بترتيب لقاء مع لجنة التسميات بالجمعية (المسئولة عن دليل التشخيص السابق ذكره) ونتيجة لذلك قام رئيس هذه اللجنة بالسماح بفكرة أنه غالباً لا ينم السلوك الجنسي المثلي عن اضطراب نفسي وأن الدليل التشخيصي ربما يحتاج لأن يعكس هذا الفهم الجديد.
• سنة 1973
عندما اجتمعت لجنة التسميات لبحث الأمر، كان الأمر كله قد أعد في الغرف المغلقة. أيضاً لم تُقدم أي معلومات علمية جديدة. وأُعطيت فقط 15 دقيقة للمعارضين لتغيير التسمية لتقديم حجتهم (تخيلوا 15 دقيقة لتلخيص كل مجهود الطب النفسي في بحث المثلية خلال السبعين سنة الماضية) وبعد أن صوتت اللجنة كما كان مخططاً، كانت هناك أصوات قليلة هي التي اعترضت على التغيير.
لقد كانت جماعة الضغط المثلي قد استعدت جيداً لهذا التصويت بأن أرسلت خطابات لنحو ثلاثين ألف من الأعضاء لتحثهم على التصويت لصالح التغيير. وكان السؤال هو كيف حصل اللوبي المثلي في الجمعية على عناوين كل هؤلاء الأعضاء؟ الحقيقية هي أنهم قد اشتروا قائمة المراسلة الخاصة بالجمعية بعد أن قاموا بجمع تمويل من المجتمع المثلي كله بالاستعانة باللجنة القومية للمثلييين National Gay Task Force (NGTF) وهي لجنة سياسية بحتة. هكذا تظهر حقيقة أن رفع الجنسية المثلية من قائمة الأمراض كان عملاً سياسياً بحتاً!