ما هو أول إنجيل كتب ؟
هل كُتب إنجيل مرقس أولًا؟ وما هيَ الأدلة على ذلك؟ وإن كان إنجيل مرقس كُتب أولًا، فلماذا وُضع إنجيل متى في صدارة الأناجيل؟
الرد
أولًا: كان القديس أُغسطينوس يعتقد أن "متى" أول مَن كتب إنجيله من الأناجيل الأربعـة، ومرقس آخر من كتب وأنه اقتبس مقاطع من إنجيلي متـى ولوقــا، فقــال "أُغسطينوس": " لقد تبع مرقس متى عن كَثَب، وبدأ وكأنه خادمه ومُلخّصه.. يحافظ مرقس على نفس السياق بالتزامن مع الإنجيليين الآخرين المُتشابهي النظرة. فرغم كونه في وحدة مع متى في معظم المقاطع، ولكنه أيضًا في وحدة مع لوقا في مقاطع أخرى"(509). وظل هذا الاعتقاد ساريًا حتى مطلع القرن التاسع عشر، وأُهمل تفسير إنجيل مرقس على اعتبار أنه تكرار لإنجيلي متى ولوقا.
ولكن لو كان مرقس هو الذي اقتبس من متى ولوقا، فلماذا لم يحافظ على الأسلوب الأدبي اليوناني الراقي الذي كتب به لوقا ومتى، بل أنه استخدم أسلوب أقل بلاغة، حتى أنه وضع بعض الجُمل بدون أفعال، وفي سنة 1835م أكد العالِم الألماني "لاشمان" Lachmann C. أن إنجيل مرقس هو الذي كُتب أولًا، لأنه لو كان إنجيل مرقس ملخصًا لإنجيل متى فكيف يغفل أحداث الميلاد، ويهمل تعاليمًا ثمينة مثل الموعظة على الجبل؟!، ومن المُلاحظ أنه عندما يتفق أي من متى ولوقا مع ما يكتبه مرقس كان يسير بحسب المنهج الذي اتبعه مرقس وبحسب الترتيب، فجاء في "دائرة المعارف الكتابية": "وكما يقول بروفسور" بيركت: "لا يتفق متى ولوقا أبدًا في وضع حادثة من غير ما وضعها فيه مرقس، فأحيانًا يخرج لوقا عن ترتيب مرقس، وكثيرًا ما يفعل متى ذلك، ولكن في هذه الحالات، نجد دائمًا أن الإنجيل الآخر يؤيد مرقس"، ففي إنجيل متى بعد العدد الأول من الأصحاح التاسع عشر، تسير الأحداث في تتابع كما في مرقس تمامًا" (510).. هذا بينما في الأحداث التي يسجلها أي من متى ولوقا ولا تتفق مع ما كتبه مرقس نجد الترتيب يختلف بين متى ولوقا، وهذا يؤكد أن متى ولوقا اعتمدا على ما كتبه مرقس، فجاءت كتابات الثلاثة بنفس النهـج ونفس الترتيب، وما كتبه متى ولوقا واختلفوا فيه هو ما لم يرد في إنجيل مرقس مثل قصة الميلاد أو الموعظة على الجبل، وهذا يوضح أنه كان تحت يد كل من متى ولوقا نسخة من إنجيل مرقس استقيا منها.
ومن الأدلة على أن إنجيل مرقس كُتب أولًا قبل الأناجيل الأخرى:
1ـــ قول مرقس الإنجيلي في صدارة إنجيله: " بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُـوعَ الْمَسِيـحِ ابْنِ اللهِ" (مر 1 : 1)، فلو كان سبقه إنجيلي آخر في كتابة إنجيله ما كان يقول " بَدْءُ إِنْجِيلِ".
2ـــ لا بُد أن مرقس كتب إنجيله قبل استشهاده سنة 68م، بل قبل استشهاد الرسولين بطرس وبولس سنة 67م، فقد كتبه خلال الفترة من 60 - 65م، وأوضح يوسابيوس القيصري أن مارمرقس كتب إنجيله بناء على طلب أهل روما منه هذا، وعندما علِم بطرس الرسول سرَّته غيرة هؤلاء الناس، ونالَ السفر موافقته لاستعماله في الكنائس، وأيد هذه الرواية القديس أكليمنضس في كتابه الثامن "وصف الناظر" واتفق معه بابياس أسقف هيرابولس (يوسابيوس 2 : 15 : 1، ترجمة القمص مرقس داود - تاريخ الكنيسة ص 88، 89).
3ــ كُتب إنجيل مرقس قبل دمار أورشليم سنة 70م، لأنه ذكر نبوة السيد المسيح عن خراب أورشليم (مر 13 : 14 - 18، 29، 30) فلو كُتب بعد خراب أورشليم لأشار لتحقق نبوة السيد المسيح بشأن خراب المدينة.
4ــ وُجدت في مخطوطات قمران التي دُفنت سنة 67م بعض أجزاء من إنجيل مرقس، وتتشابه مـع كلمات القديس مرقس، وتحمـل أرقام 4 Q 256، وأيضًا 4Q 302، 4 Q 541، 4 Q 382، 4 Q 302.
وقد افترض "باروخ سبينوزا " أن مرقس الرسول لم يكتب إنجيله.. لماذا؟ لأن سبينوزا افترض أن إنجيل مرقس كُتب بعد سنة 180م، ومن المعروف أن حياة مرقس لم تمتد لهذا التاريخ، لذلك افترض أن إنسانًا آخر كتب الإنجيل ونسبه لمرقس الرسول، والحقيقة أن باروخ سبينوزا فيلسوف يهودي هولندي وُلِد في 24 نوفمبر 1632م، ومات في 21 فبراير 1677م ورغم استقامة خلقه فأنه نُبِذ من أهله وجاليته اليهودية بسبب اعتقاده بمبدأ وحدة الوجود، أي أن الله يكمن في الطبيعة والكون، فالله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، وحاول أحد المتعصبين للدين طعنه ولكنه نجا من الموت، ومات بالسُل وله من العمر أربعة وأربعين عامًا، وعلى كلٍ فهو إنسان غير مسيحي، فلا يمكن أن يُؤخَذ رأيه حجة علينا.
ومن الأدلة على أن إنجيل مرقس كُتِب قبل التاريخ الذي حدَّده باروخ سبيونزا سنة 180م، ما يلي:
1ــ اقتبس أغناطيوس الأنطاكي (37 - 107م) تلميذ بطرس الرسول في كتاباته من إنجيل مرقس، ففي رسالته جزء 19 مقتبس من (مر1 : 24)، وفي رسالته إلى فيلبي الفصل الثاني اقتبس من (مر 12 : 29).
2ــ اقتبس أكليمنضس الروماني (30 - 100م) تلميذ بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس الفصل 15 من (مر 7 : 6)، وفي الفصل 46 اقتبس من (مر 9 : 42).
3ــ اقتبس بوليكاربوس (65 - 155م) تلميذ يوحنا الحبيب في رسالته إلى فيلبي نحو سنة 100م اقتبس في الفصل 14 من (مر 10 : 38)، وفي الفصل السابع اقتبس من (مر 14 : 38).
4ــ قام تاتيان خلال الفترة من 160 - 180م بتفكيك الأناجيل الأربعة، وأنشأ إنجيلًا جديدًا دُعي بالدياتسرون (رباعي).
5ــ تم اكتشاف مخطوطة لإنجيل مارمرقس يرجع تاريخها إلى عام 74م في منطقة تعرضت للهدم تمامًا سنة 200م، وهذا ما أثبته "د. ودارد" الأستاذ بجامعة أكلوهاما، حيث أوضح أن الختم الآرامي الذي على المخطوطة يرجع إلى عام 74م، وحوت المخطوطة صورة لمارمرقس مع لوقا الإنجيلي.
6ــــ حوت الترجمة اللاتينية قبل منتصف القرن الثاني الميلادي إنجيل مرقس.
ثانيًا: لقد صار من المؤكد الآن أن إنجيل مرقس كُتب أولًا قبل بقية الأناجيل، . ومع ذلك فإن الكنيسة وضعت إنجيل متى في صدارة أسفار العهد الجديد، لأنه كُتب لليهود الذين يؤمنون بالعهد القديم، وقد ربط هذا الإنجيل بين العهدين القديم والجديد، وهو أكثر الإنجيليين اقتباسًا من العهد القديم، وقدم السيد المسيح على أنه المسيا المُنتظر، وهو أيضًا موسى الجديد، حتى أنه أكثر من استخدامه للرقم خمسة لأن أسفار موسى الخمسة كانت ماثلة أمام عينيه.
وقال "مكدونلد": "يعتبر إنجيل متى جسرًا مثاليًا يصل ما بين العهدين القديم والجديد، فإن كلماته الأولى تأخذ رجوعًا إلى أول آباء شعب الله، وهو إبراهيم، وإلى الملك الأول العظيم للشعب القديم، أي داود. ويعتبر إنجيل متى نقطة الانطلاق المنطقية التي تبدأ فيها الرسالة المسيحية إلى العالم، وذلك بسبب نقاط تركيزه والصفة العبرانية المسيطرة عليه والاقتباسات الكثيرة من العهد القديم التي فيه، وأيضًا بسبب مركـزه كأول أسفار العهد الجديد" .
وبالرغم من أن معظم رسائل بولس الرسول دوّنت قبل الأناجيل، إلاَّ أن الكنيسة وضعت الأناجيل في صدارة أسفار العهد الجديد، لأنها تمثل حياة السيد المسيح منذ ميلاده وحتى صعوده، مرورًا بكرازته وتعاليمه وأقواله وأعماله ومعجزاته، أمَّا الرسائل فمن الطبيعي أنها نتائج لعمل السيد المسيح في كنيسته.
مقتبس من كتاب مدارس النقد والتشكيك والرد عليها حلمي القمص يعقوب