هل تم تحريف مخطوطات الكتاب المقدس ؟
هل الترجمة اليسوعية تؤكد زعم تحريف مخطوطات الكتاب المقدس ؟ هل النساخ حرفوا مخطوطات الكتاب المقدس عن قصد؟ ندخل إلى الاعتراض والرد:
[أن نسخ العهد الجديد التي وصلت إلينا ليست كلها واحدة، بل يمكن المرء أن يرى فيها فوارق مختلفة الأهمية، ولكن عددها كثير جداً على كل حال. هناك طائفة من الفوارق لا تتناول سوى بعض قواعد الصرف والنحو أو الألفاظ أو ترتيب الكلام، ولكن هناك فوارق أخرى بين المخطوطات تتناول معنى فقرات برمّتها.واكتشاف مصدر هذه الفوارق ليس بالأمر العسير. فأن نص العهد الجديد قد نسخ ثم نسخ طوال قرون كثيرة بيد نسّاخ صلاحهم للعمل متفاوت، وما من واحد منهم معصوم من مختلف الأخطاء التي تحول دون أن تتصف أية نسخة كانت، مهما بذل فيها من الجهد، بالموافقة التامة للمثال الذي أخذت عنه. يضاف إلى ذلك أن بعض النسّاخ حاولوا أحياناً، عن حسن نية، ان يصوّبوا ما جاء في مثالهم وبدا لهم أنه يحتوي أخطاء واضحة أو قلة دقة في التعبير اللاهوتي. وهكذا أدخلوا إلى النص قراءات جديدة تكاد أن تكون كلها خطأ.ومن الواضح أن ما أدخله النسّاخ من التبديل على مر القرون تراكم بعضه على بعضه الآخر، فكان النص الذي وصل آخر الأمر إلى عهد الطباعة مثقلاً بمختلف ألوان التبديل ظهرت في عدد كبير من القراءات.والمثال الأعلى الذي يهدف إليه علم نقد النصوص هو أن يمحص هذه الوثائق المختلفة لكي يقيم نصاً يكون أقرب ما يمكن من الأصل الأول، ولا يرجى في حال من الأحوال الوصول إلى الأصل نفسه]. (الترجمة اليسوعية) ص 12
الرد
*هذه المقدمة ليست نصًا من النصوص المقدَّسة، إنما هيَ آراء سجلها الذين قاموا بطباعة هذه الترجمة، وأشاروا في بدايتها أنها مستوحاة من مقدمة الترجمة الفرنسية المسكونية للكتاب المقدَّس، وبالتالي فهيَ ليست لزامًا علينا أن نأخذ بها، فلا تؤخذ حجة علينا، بل هيَ تنسحب على كتَّابها. ونحن لا ننفي وجود اختلافات في النساخة مهما كانت أمانة النسَّاخ وصدق نواياهم، بسبب الضعفات البشرية. ونحن ندرك تمامًا أنه كان هناك تراكمات مع تكرار النساخة، فالنسخة التي تُنسخ تقع بها بعض الاختلافات عن النسخة المنقول منها، بالإضافة للاختلافات التي حملتها النسخة المنقول منها عند نساختها، وهكذا تتراكم الاختلافات، ومما ساعد على هذا أنه في القرون الأولى التي عانى فيها المسيحيون من اضطهادات مُرة لم تكن هناك فرص متاحة لمقارنة المخطوطات معًا، وقال "نورمان جيسلر": "العديد من هذه النسخ المنسوخة كانت تُنسخ على عجل بسبب تعرّض النُسَّاخ لخطر الاضطهاد إذا ما اعتقلوا. وهكذا ظهرت نسخ بغير حرفية نسخية"
ولكن بعد أن تمتّع المسيحيون بحرية العبادة على يد الإمبراطور قسطنطين لم يكن هناك حاجة لإخفاء الأسفار المقدَّسة أو التعجُّل في نساختها، وبذلك حدثت مقارنات سواء عن قصد أو بدون قصد، وعُرفت جميع مواضع الاختلافات، وتقاربت المخطوطات جدًا، ولا سيما أن الغالبية العظمى من هذه الاختلافات هيَ اختلافات هامشية، ولا واحدة منها تؤثر في أقل عقيدة مسيحية، ولذلك لا يجب المغالاة في أهمية هذه الاختلافات، فقد أمكن ضبطها إلى حد كبير جدًا، وصار هناك نُسَّاخ متخصصون ذو مهارة فائقة فقاموا بهذا العمل المقدَّس خير قيام، وصوَّبوا الأخطاء النحوية، ودرسوا الاختلافات وضبطوهــا، ونشكر الله أن 90 % من بين أيدينا من مخطوطات الآن يرجع لتلك الفترة، فترة النص الموحّد منذ القرن الرابع، وما بعده. إذًا الأمر لم يكن كما صوَّره بعض النُقَّاد، بأن الناسخ كان يملك الحرية لدرجة تغيير النصوص كما شاء، دون التقيُّد بقواعد النساخة، والحفاظ على الأمانة العلمية، فهذا الأمر لم يحدث على الإطلاق إلاَّ في خيال النُقَّاد، ولو كان لكل ناسخ الحرية في تغيير النص لوقفنا الآن أمام تناقضات جوهرية حقيقية صارخة في المخطوطات، ولرأينا الشيء ونقيضه، فمثلًا تارة تخبرنا بعض المخطوطات بأن ولادة المسيح ولادة معجزية بدون زرع بشر، وتارة تخبرنا مخطوطات أخرى بأن المسيح وُلِد ولادة عادية.. هل يجد أحد مثل هذا التناقض؟! كلاَّ.. تخبرنا جميع المخطوطات عن الإيمان المسيحي بأن السيد المسيح صنع المعجزات، وصُلب، ومات، ودُفن، وقام، وصعد للسماء، وأنه سيأتي ثانية ليدين الأحياء والأموات، ويأخذ الأمناء للملكوت، ويعاقب الخطاة الأثمة بالنار الأبدية، وهوذا المخطوطات بالآلاف وفي متناول يد الباحثين، فهل يجد أي باحث في أية مخطوطة ما يخالـف أي عقيدة مما ذكرنا..؟! كلاَّ، وألف كلاَّ.. فلماذا يسوّد هؤلاء النُقَّاد الصورة، ويصوّرون المخطوطات كأنها منبع الفساد والضلال؟!
*صوَّر النُقَّاد النسَّاخ وكأنهم يتأمرون على النصوص المقدَّسة، وكل منهم يتفنَّن في إفساد النص، وهذا أمر مجافٍ للحقيقة، لأنه لم يقم أي ناسخ بتغيير كلمة أو عبارة بهدف زعزعة حقيقة لاهوتية، أو لزرع فكر هرطوقي. ويقول "بارت إيهرمان": "من الخطأ الاعتقاد أن التغييرات الوحيدة كانت تصدر من نُسَّاخ ذوي أهواء شخصية في كلمات النص. من الواقع فإن معظم التغييرات الموجودة في المخطوطات المسيحية، زلات قلم أو لا مبالاة أحيانًا، إضافة غير مقصودة، كلمات تُهجَّأ بشكل خاطئ، أخطاء من نوع أو آخر، يمكن أن يكون النُسَّاخ غير أكفاء، ومن الضروري أن نتذكر أن معظم النُسَّاخ في القرون الأولى كانوا غير مدرّبين على هذا النوع من العمل.. وحتى وقت لاحق بدأ من القرن الرابع والخامس عندما برز النُسَّاخ المسيحيون المحترفون ضمن الكنيسة، وحتى لاحقًا عندما كانت المخطوطات تُنسَخ من قِبل الرهبان المكرسين لهذا العمل في الأديرة.. حتى النُسَّاخ الذين كانوا أكفاء ومدربين ويقظين يقترفون الأخطاء أحيانًا. فأحيانًا كما رأينا كانـوا يغيرون النص، لأنهم يظنون أنه يجب أن يغيَّر. ولم يكن ذلك لأسباب لاهوتية معينة فقط. لقد كان هناك أسباب أخرى ليقوم النسَّاخ بتغيير النص عامدين (عندما يظنون أن هناك خطأ ناسخ سابق).. فعندما كان النسَّاخ يقومون ببعض التعديلات عامدين كانت دوافعهم أحيانًا نقية كالثلج المتساقط، ولكن التغييرات قد تمت دون شك، وكلمات الكتاب الأصلية يمكن أن تتغير أو تضيع في النهاية كنتيجة لذلك"
مقتبس من كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (عهد جديد) أ.حلمي القمص يعقوب